إشراقة
التركيز
.. وقيمته في المشوار الدراسيّ
التركيزُ هو الآلة
الفعّالة لتعلُّم شيء و إتقانه في أقلّ وقت . توصّلتُ إلى ذلك أوّلاً خلال الأيّام
التي عكفتُ فيها على التحصيل العلميّ، وتَأَكَّدَ ذلك لديَّ ثانيًا خلال الأعوام
الطويلة التي أمضيتُها في التدريس، وهي لاتقلّ عن أربعين عامًا، وأنا في مستهلّ
العقد السادس من عمري؛ حيث بدأتُ مشواري التدريسي وأنا في 18 سنة أو أكثر قليلاً
من عمري؛ فاختمرت تجربتي التدريسية، واطّلعتُ على نفسيّة المتعلّمين، ونقاط ضعفهم
وقوتهم، والعوامل التي ترفعهم، والأسباب التي تضعهم، والسلوك الدراسيّ المحمود
الذي يضمن لهم الإتقانَ والدقّةَ والتعمّقَ والنبوغَ والامتيازَ والسمعةَ
المطبقةَ، والتعامل الإهماليّ الذي يتخلّف بهم عن طريق البروز والأهلية الجديرة
بالتسجيل والذكر .
وإذا كانت
هناك صفات وتصرفات كثيرة يجب أن يلتزم بها الطالبُ؛ لكي يجني كلَّ ثمرة حلوة يانعة
لذيذة من وراء رحلته الدراسيّة في أقصر ما يمكن من الأوقات وأقل ما يمكن من الجهد
والكلفة؛ فإنّ صفة >التركيز< هي واسطة العقد بينها جميعًا . وجدتُ الطلاّب
المُرَكِّزِين يتلقّفون بسهولة كلَّ ما يُلْقَىٰ إليهم من الموادّ وشرحها
والدروس ومايتصل بها والمحاضرات وما يجب أن يُعْلَم عنها، ويَنْمُونَ في العلم
والمعرفة نموًّا مُطَّرِدًا بسرعة ساحرة تجعل كُلاًّ من الأساتذة والمُرَبِّين
وأولياء الأمور والمتابعين غير المعنيين أيضًا حيارى في تعليل نموّهم المدهش في
التحصيل وتقدّمهم في الدراسة بصفة عجيبة .
أمّا
اللاَّمُرَكِّزون اللاَّمُبَالُون فوجدتُهم يقتلون الوقتَ الكافيَ ويُهْدِرُون
الفرصةَ الطويلةَ، ولايُمْسِكون بعلم، ولا يُصِيبون معرفةً ، ولا يفوزون من
المعلومات بشيء، فضلاً عن أن يجنوا إتقانًا لعلم أو فنّ ؛ لأنّهم لايُصْغُون
أفئدتهم إلى ما يُلْقَى إليهم، لعدم إيمانهم في قرارة أنفسهم بإفاديّة ما
يُلَقَّنُوْنَه . والاستماعُ لا يَتَأَتّي إلاّ من الشعور بإفادية ما يُقَدَّم إلى
المُخَاطَب – تلميذًا كان أو مستمِعًا عامًّا – والشعورُ بالإفاديةِ والقيمةِ
للمادة العلميّة نقطةُ انطلاق الحرص على الاستماع والرغبة في التلقّف كحرص الكلب
الجائع الباسط ذراعيه أمام سيده الذي يَقْذِف إليه كسرةَ خبزٍ يابسةً ، فلا
يَدَعُهَا تسقط على الأرض، وإنما يَتَلَقَّفها بفمه رأسًا من الهواء .
الدراسةُ
والتعلّمُ مِهْنَةٌ لايُتْقِنُها كلُّ من هَبَّ ودَبَّ، وإنما يُتْقِنُها الحريصُ
على الدراسة والتعلّم حرصَ الغيور على دينه وعقيدته الذي يُضَحِّى بكل راحة في
الحياة حتى بالحياة نفسها؛ لكي يحافظ عليها؛ لأنّه لايقدر على أن يعيشَ بدون الدين
الغيور على دينه وعقيدته الذي يُضَحِّى بكل راحة في الحياة حتى بالحياة نفسها؛ لكي
يحافظ عليها؛ لأنّه لايقدر على أن يعيشَ بدون الدين والعقيدة اللذين يحتضنهما .
وهو يُضَحِّي، فيلتذّ بالتضحية التذاذًا لايجده في غير التضحية بحياته في سبيل
الدين . ومن كان كذلك تَمَتَّع بالتركيز معنى ومبنى . ومن لم يكن كذلك ظلّ
مُهْمِلاً لامُبَالِيًا، لايعرف للتركيز معنىً مهما بُذِلَتِ المحاولةُ لتعريفه
بأهميته ولفت انتباهه إلى قيمته وغنائه .
إن
التركيز أَهَمُّ شيء في حياة المُتَعَلِّم، وأغلى رصيد لدى الدراس الذي يودّ أن
يتعلّم شيئًا، ويُتْقِنه إتقانًا يضمن قيمتَه الشخصية وأهميَّتَه الذّاتية في سوق
الحياة الذي لايُبَالِي بالأوساط والأسافل، وإنما يخصّ بالالتفات من يكون >أعلى< و>أشمخ< يسترعي الانتباه بقامته الفارعة ، و>يُرْغِمُ< >الزبائن< أن يُلْقُوا إليه بالاً شَاءَوا أو أَبَوا.
كلُّ
ما يبذله المتعلّمُ في الدراسة والتحصيل من الجهد والسهر والتعب، والجوع والعطش،
وحرمان اللذة، والزهد في الراحة والاستجمام، والإعراض عن المتعة بأنواعها؛ إنما
يرجع إلى الحرص، و من الحرصُ ينبع التركيزُ . والتركيزُ معناه الانتباهُ التامُّ،
والخضوعُ الكامل لدواعي المهنة الدراسيّة، بحيث تُسَيْطِر قضيةُ الانهماك فيها على
كلّ ما لدى الطالب من الوعي والفكر والذوق والرغبة، فلا يُفَكِّر إلاّ فيها، ولا
يصدر إلاّ عنها، ولا يهتم إلاّ بها، يستيقظ وهي مُسَيْطِرَةٌ على تفكيره، ويروح
لينام وهي تتحدّث معه، يمشي وهي مَرمَىٰ حديثِ نفسِه، ويجلس وهي تُمسك
بمجامع وعيه، ويتصرّف في أمور الحياة وهي لاتُزَايِلُ مخيِّلَتَه والشِعْبَ
الفارغَ من قلبه .
الطالب لايكسب
بالجهد والسهر وترك اللَّذَّات والشهوات، بمثل ما يكسب بالتركيز الذي هو الآلة
السحريّة التي تُحَوِّل كلَّ تافه ثمينًا وكلَّ هَيِّن قَيِّمًا . مُجَرَّدُ
الاجتهاد والتعب لاينفع ما لم يُصَاحِبْهما التركيزُ. إنّ تجربتي الشخصية خلال كلّ
من التعلّم والتعليم أكّدت لي أن كثيرًا من الطلاب يَضِيْعُونَ رغم الجدّ
المُدْنِي كلَّ شاسع والفاتح كلَّ مُغْلَق إذا فقدوا صفةَ التركيز . ورأيتُ
المُرَكِّزِين ينالون حظَّهم من جني العلم رغم قلّة الجدّ . الجدُّ لابدّ منه
للمتعلّم؛ ولكن الجدّ يجعله التركيزُ نافعًا نفعًا كبيرًا .
التركيزُ هو
الذي يجعل الطالبَ يستمع استماعًا مفيدًا، ويستجمع قواه الفكريةَ كلَّها
ليَصُبَّها على الإمساك بكلّ فكرة يطرحها الأستاذ و تلقّفِ كلّ كلمة يَلْفِظُها
لسانُه، كما يجعله يدرك ماوراء الكلمة من المعاني والأفكار والأخيلة ، فلا يكون
عبدَ اللفظ، وإنما يكون سيّدَ المعاني والحقائق التي أُرِيْدَتْ من وراء الكلمات التي أُدِّيَت
لتدلّ عليها .
* * *
وَجَدْتُ بعضَ
الطلاب لدى أول نظرة وقعت منّى عليه لدى حضورِه الأوَّلِ الفصلَ يبدو بدويًّا
بليدًا لاَمُبَالِيًا بكل شيء يتّصل بالدراسةِ والاستماعِ للمحاضراتِ وتَلَقِّى ما
يُقَدِّمه الأستاذ إلى الطلاب من الموادّ التي يحاول إرسالَها إلى أذهانهم، وكأنّه
صِيْدَ بشكل مُفَاجِئ ضمن الفتيان الأغرار الآخرين الذين جُعِلوا طلاّبًا وهم
كارهون للدراسة، أو اختيروا طلابًا وهم جاهلون بكل شيء اسمه التعلّم والدراسة
وتلقّى العلم؛ ولكنّ بعضَ الكلمات التي فاتحتُ بها الطلابَ في اليوم الأوّل من
العام الدراسي لتُوَطِّد أذهانهم للاستمرار في التلقي والاستماع، تَسَرَّبَتْ إلى
سمعه على غير إرادة منه فَاسْتَعْذَبَها، لكونها حديثًا عن العلم والمعرفة، طُرِحَ
مُغَلَّفًا بالتبشير بمستقبل زاهر، وغد مشرق، لمن يتلقّاهما – العلم والمعرفة –
بنهم وشغف، حيث يُصْلِحَانِ دنياه التي فيها معاشُه، وآخرتَه التي فيها معادُه.
ومن حَظِيَ بهذين الأمرين، حَظِيَ بحظّ وافر. فَغَيَّرتْ – هذه الكلمات – مجرى
حياته، وحوّلت بلادتَه ذكاءً، وإهمالَه جدًّا؛ فصار خلال أيام قليلة قادمة فتى
غيرَ الذي كان بالأمس، وأصبح واعيًا شاعرًا بالمسؤولية، مُتَمَتِّعًا بالتركيز على
كل مادة دراسية مطروحة إليه من قبل أي أستاذ، أو مرادٍ فهمُها واستظهارُها من
مُقَرَّرٍ دراسيّ من المُقَرَّرَات التي لابدّ أن يدرسها هذا العامَ الدراسيَّ؛
فبَذَّ عددًا من الطلاب الذين كانوا يُعَدُّون >مُبَرِّزِين< من قبلُ في
هذا الصف الدراسيّ، بفضل رصيده الوفير من التركيز الذي فاق فيه المُبَرِّزِين، حتى
حاز فيه قصبَ السبقِ مع الأيّام وأَضْحَىٰ تلميذًا ممتازًا في الجامعة،
وبالتالي تَخَرَّجَ مُؤَهَّلاً أهليّةً فائقة، وصار عالمًا مُتْقِنًا يشار إليه
بالبنان عندما أتيح له أن يعيش الحياةَ العمليّةَ بعد التخرج .
وعلى العكس من
ذلك وجدتُ بعضَ الطلاب يبدون أذكياء واعين مُتَحَضِّرِين عارفين بفنّ التعلّم؛
فأمّلتُ أنه سيكون له شأن كبير، وسيكون حائزًا قصبَ السبق، ويكون مُؤَهَّلاً غيرَ
عاديّ إن شاء الله؛ ولكنه خاب فيه ظنّي؛ حيث حُرِمَ إلى جانب صفاته الإيجابية
المُبَشِّرة هذه صفةَ التركيز، وفُطِرَ على الإهمال والاضطراب التفكيري، اللذين
أضاعا عليه كلاًّ من الصفات الإيجابيّة الحميدة؛ فبقي حيث كان، وشَكَّلَ شجرةً غير
مثمرة رغم قوة ساقها، وكثرة أغصانها، وخضرة أوراقها، فلم يحظَ بثناء أو تحبيذ،
وإشادة وإعجاب .
كان
أستاذي الكبير المعلم العبقري فضيلة الشيخ وحيد الزمان القاسمي الكيرانوي رحمه
الله (1349-1415هـ = 1930-1995م) يقول: الذكاء والغباء شيئان نِسْبِيّان . من
اجتهد من الطلاب مع التركيز فهو الذكي . ومن زَهِدَ في الاجتهاد والتركيز فهو
الغبيّ . الاجتهاد والتركيز كفيلان بكل نجاح للتلميذ، وعَدَمُهُمَا يُؤَدِّيان لا
مَحَالَةَ إلى الفشل الذي لاحدّ له . وكان رحمه الله يَقْرِنُهَمَا بالطاعة
والبرّ؛ فكان يرى أن الطالبَ المطيعَ البارَّ هو الذي يكسب كلَّ النجاح الذي
ينشده، والطالب العاصي العاقّ للأستاذ لايجني نجاحًا، مهما اجتهد ورَكَّز، وسَهِرَ
وتَعِبَ، و وصل الليلَ بالنهار، و وَعَى كلَّ الدروس، وفَهِمَ كلّ المواد، وصاد في
مجال الدراسة كلَّ صيد، بل اقتنص النجوم، وسَيْطَرَ على دورانِ الفلك!. كان رحمه
الله يبغض العاصيَ العاقّ من الطلاب البغضَ كلّه، وكان يحبّ الطالب البار المطيع
الحبَّ كلّه. وكان يقول: إن الاجتهاد والتركيز أيضًا ثمرتان للطاعة والبرّ؛ فالأصل
– على مذهبه – أن يكون الطالب بارًّا ومطيعًا ، ثم النجاحُ قرينهُ والسعادةُ
حليفُه .
(تحريرًا
في الساعة 12 من يوم الجمعة: 7/ذوالحجة 1427هـ الموافق
29/ ديسمبر 2006م) .
أبو
أسامة نور
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول 1428هـ =
أبريل 2007م ، العـدد : 3 ، السنـة : 31.